گروه نرم افزاری آسمان

صفحه اصلی
کتابخانه
جلد ششم
السحب تکوینها، تنویعها








اشارة
.«1» وَ یُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ
مصطلحات علمیۀ وضعت وفق تعابیر القرآن:
قال الدکتور محمّد جمال الدین الفندي: ذکر القرآن أنّ الریاح- و منها الهواء الصاعد- هی التی تثیر السحاب و تکوّنه. و القرآن
.«2» حسب علمنا أول کتاب یقرّر تلک الحقیقۀ
أمّا تکوین السحب، فإنّها تتکوّن بتبرید الهواء تحت درجۀ الندي، فتقلّ قدرته علی حمل بخار الماء، و یتحوّل هذا الأخیر الی نقط من
الماء أو الی بلّورات من الثلج، تبعا لدرجۀ الحرارة السائدة.
و یتمّ تبرید الهواء فی الطبیعۀ بعدّة طرق:
-1 التبرید الذاتی، أي تبرید الهواء بمجرّد انتشاره و تقلیل الضغط الواقع علیه، و یحدث ذلک عند ما یصعد الهواء الی طبقات علیا من
الجوّ یقلّ فیها الضغط، فینتشر و یبرد و تقلّ قدرته علی حمل بخار الماء. و یتکاثف هذا الأخیر الی نقطۀ من الماء، او الی بلّورة من
الثلج.
. و تلعب هذه العملیۀ أهمّ دور فی تکوین السحب و نزول الامطار، إذ معدّل ( 1) الرعد: 12
. 2) اللّه و الکون: ص 173 )
ص: 141
التبرید فی الهواء الصاعد هو درجۀ سنتجراد لکلّ 100 متر إذا لم یحدث التکاثف 65 % درجۀ اذا حدث التکاثف.
-2 التبرید بالإشعاع الحراري أثناء اللیل، و هو یولّد الضباب و الشابورة و بعض السحب الطبقیۀ أو البساطیۀ المنخفضۀ.
-3 التبرید بالمزج، یعنی خلط هواء ساخن رطب بآخر بارد جافّ، بحیث تکون درجۀ حرارة الخلیط تحت نقطۀ الندي. فیتمّ التکاثف
صفحۀ 82 من 191
علی هیئۀ ضباب، کما هو الحال عند اختلاط کتل هواء تیّار الخلیج الدافئ فی شمال المحیط الأطلسی، ممّا جعل البحّارة یطلقون علیه
و تصوّروه مأوي الأشباح و مثوي الأرواح. « بحر الظلمات » اسم
التقسیم الطبیعی للسحب:
« بساطیۀ » و إمّا أن تنمو افقیا و تمتدّ کالبساط، و عندئذ تسمّی .« رکامیۀ » السحب إمّا أن تنمو رأسیّا و تشمخ کالجبال، و عندئذ تسمّی
.« طبقیۀ » أو
و یفرّق القرآن بین النوعین، فیسمّی النوع الأوّل رکامیا، و الثانی بساطیا. فممّا جاءت الإشارة فیه الی النوع الأول قوله تعالی: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ یُزْجِی سَحاباً ثُمَّ یُؤَلِّفُ بَیْنَهُ ثُمَّ یَجْعَلُهُ رُکاماً فَتَرَي الْوَدْقَ یَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ یُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِیها مِنْ بَرَدٍ فَیُصِ یبُ بِهِ مَنْ
.«1» یَشاءُ وَ یَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ یَشاءُ
.«2» و جاءت الإشارة الی النوع الثانی فی قوله تعالی: اللَّهُ الَّذِي یُرْسِلُ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً فَیَبْسُطُهُ فِی السَّماءِ کَیْفَ یَشاءُ
و لذلک فمن الوجهۀ العلمیۀ هناك المزن الرکامی .« المزن » و السحاب الممطر لا یعدو النوعین. و العرب تسمّی السحاب الممطر باسم
. و المزن البساطی (الطبقی). قال تعالی: أَ فَرَأَیْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ ( 1) النور: 43
. 2) الروم: 48 )
ص: 142
.«1» نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
السحب الرکامیۀ:
و السحب الرکامیۀ هی النوع الأهمّ من السحب، لأنّها قد تمتدّ عمودیا (رأسیا) عبر ( 15 ) أو ( 20 ) کیلومترا، فتصل الی طبقات من الجوّ
باردة جدّا تنخفض فیها درجۀ الحرارة الی ( 60 ) أو ( 70 ) درجۀ مئویۀ تحت الصفر.
و بذلک یتکون (البرد) فی أعالی تلک السحب. و المعروف علمیا أنّ نموّ البرد فی أعالی السحب الرکامیۀ یعطی انفصال شحنات أو
طاقات کهربائیۀ سالبۀ، و أنّه عند ما یتساقط داخل السحابۀ و یصل فی قاعدتها الی طبقات مرتفعۀ الحرارة فوق الصفر یذوب ذلک
البرد أو یتمیّع و یعطی انفصال شحنات کهربائیۀ موجبۀ. و عند ما لا یقوي الهواء علی عزل الشحنۀ السالبۀ العلیا عن الشحنۀ الموجبۀ فی
أسفل یحدث التفریغ الکهربائی علی هیئۀ برق. و ینجم عن التسخین الشدید المفاجئ الذي یحدثه البرق أن یتمدّد الهواء فجأة و
یتمزّق محدثا الرعد.
و ما جلجلۀ الرعد إلّا عملیۀ طبیعیۀ بسبب سلسلۀ الانعکاسات التی تحدث من قواعد السحب لصوت الرعد الأصلی.
و قد یحدث فی بعض العواصف أن یتکرّر حدوث البرق داخل السحابۀ 40 مرّة فی الدقیقۀ الواحدة. أمّا إذا حدث التفریغ الکهربائی
.« صاعقۀ » بین السحابۀ و أي جسم مرتفع علی سطح الأرض فإنّه یسمّی
و تحدث عواصف الرعد فی کافّۀ أرجاء الأرض ما عدا المناطق القطبیۀ، حیث ضئالۀ حجم الهواء بالنسبۀ الی خطّ الاستواء.
و قد وجد بالحساب أنّ عدد عواصف الرعد التی تحدث فی جوّ الأرض فی یوم واحد یبلغ أکثر من 40 ألفا، أي بمتوسط قدره 1800
عاصفۀ فی الساعۀ.
. 1) الواقعۀ: 68 و 69 ) .«2» 2) ملیون کیلووات ساعۀ / و تستهلک العاصفۀ فی المتوسط نحو ( 2
صفحۀ 83 من 191
.161 - 2) اللّه و الکون: ص 146 )
ص: 143
التبخّر و الإشباع و التکاثف
اشارة
.«1» أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ یُزْجِی سَحاباً ثُمَّ یُؤَلِّفُ بَیْنَهُ ثُمَّ یَجْعَلُهُ رُکاماً فَتَرَي الْوَدْقَ یَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ
عوامل ثلاثۀ لنزول المطر:
لحصول المطر عوامل ثلاثۀ لا غیرها، اذا توفّرت لا بدّ من نزول المطر، و اذا نقص عامل منها فلا إمکان لحصوله، و تلک العوامل هی:
-1 التبخّر، و هو عملیۀ تحوّل ذرّات الماء الی البخار، لیؤدّي الی تکوین سحاب.
-2 وصول الهواء المتحمّل للبخار الی درجۀ الإشباع المختلف حسب المناخ.
-3 التکاثف، و هو ضدّ عملیۀ التبخّر، لیتحوّل البخار الی ذرّات الماء.
و هذا الترتیب علی التعاقب ممّا لا محیص عنه لتکوین المطر و نزوله، و هو من بدیهیّات العلم المقطوع به و المفروغ عنه بلا ریب. و
إلیک شرح هذه العوامل باختصار:
(أولا) التبخّر، و هو عملیۀ تحوّل ذرات الماء الی البخار، و انتقاله الی الهواء، و ذلک بتأثیر حرارة الشمس علی السطوح المائیۀ
. المتوسّعۀ، کالمحیطات و البحار ( 1) النور: 43
ص: 144
و البحیرات و المستنقعات و الأنهار، بل و حتّی السطوح الثلجیۀ و الجلیدیۀ، بل و حتّی علی أوراق الأشجار و النباتات و خاصّۀ الغابات.
(ثانیا) الإشباع، و هو استمرار التبخّر حتی یبلغ حدّا معیّنا، و یسمّی بدرجۀ التشبّع، و تختلف حسب اختلاف المناخ. فکلما اختلفت
درجۀ الحرارة اختلفت درجۀ التشبّع اللازمۀ لتکوین الأمطار. فالهواء الحارّ فی درجۀ التشبّع یحوي مقدارا من البخار أعظم ممّا یمکن
أن یحویه الهواء البارد. فکمیّۀ الرطوبۀ التی تکفی للتشبّع فی درجۀ 15 م مثلا لا تکفی للتشبّع فی درجۀ 20 م. و اذا کان الهواء متشبّعا
.% قیل: إنّ نسبۀ رطوبته 100
و بعبارة أوضح: إنّه حیثما وجد الماء و الهواء فإنّه یحدث تبادل بین جزئیات أحدهما مع الآخر، فتمرّ جزئیات الماء عن طریق التبخّر
الی الهواء، کما تمرّ جزیئات الهواء الی الماء. و لذلک یوجد دائما مقدار من بخار الماء فی الهواء، کما یوجد مقدار من الهواء فی
الماء.
و اذا کان مقدار البخار الذي فی الهواء قلیلا فإنّ الجزیئات البخاریۀ التی تتصاعد من الماء تکون أکثر من جزیئات الهواء التی تمرّ الی
الماء، و علی ذلک فإنّ عملیۀ التبخّر تستمر. و لکن اذا کان مقدار ما فی الهواء من البخار کثیرا فإنّ تبادل الجزیئات بین الماء و الهواء
یکون متساویا، و فی هذه الحالۀ یقال: إنّ الهواء متشبّع بالبخار المائی، أو إنّه فی درجۀ الإشباع، أي لا یستطیع أن یحمل أکثر ممّا هو
معلّق به من البخار.
فدرجۀ الإشباع تتوقّف علی التساوي و التعادل فی تبادل جزئیات الماء و الهواء و التآلف بینهما.
صفحۀ 84 من 191
و من ناحیۀ اخري- ذات أهمیّۀ کبري- أنّ درجۀ التشبّع تتوقّف علی ظاهرتین طبیعیّتین اخریین، لا بدّ منهما فی وصول الهواء الی حالۀ
الإشباع الکافی:
ص: 145
الظاهرة الاولی: هی التساوي فی الضغط، فلبخار الماء المتصاعد ضغط کما لبخار الهواء المتشبّع ضغط، فاذا تساوي الضغطان فالتبخّر و
التکاثف یتعادلان، و فی هذه الحالۀ یقال: إنّ الهواء مشبّع بالبخار الکافی. و المطر نتیجۀ لازمۀ لهذا التعادل.
و الظاهرة الثانیۀ: هی اتّحاد الکهربائیّتین، فإنّ السحب ذوات تکهرب، و کلّ سحاب یحمل نوعا من نوعی الکهرباء السالبۀ و الموجبۀ،
فإذا ما تقارنت السحب و اختلف نوع الکهرباء فیها تجاذبت، و إلّا تنافرت. شأن الکهرباء عموما یتجاذب نوعان منه و یتنافران من النوع
الواحد.
و اجتماع السحب و تألیف بعضها مع بعض إنّما هو بفعل الریاح، تثیر السحب من مکان الی مکان، فإذا جمعت الریاح بین نوعین من
الکهربائیۀ ذوات الموجبۀ و ذوات السالبۀ فعند ذلک تتجاذب بعضها الی بعض و تتقارب و تتآلف، و بذلک یحصل اللقاح الناتج
.«1» للإمطار. وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَیْناکُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِینَ
یا تري من ذا کان یعرف هذه الظاهرة الطبیعیۀ یومذاك؟! أن تقوم الریاح الباردة فتثیر سحابا، و هی تدفع السحب المکهربۀ الی لقاء
بعضها مع بعض، و تلقی بالسحابۀ السالبۀ التکهرب بین أذرع سحابۀ اخري موجبۀ التکهرب، و بذلک یحدث عملیۀ اللقاح، الناتجۀ
للبرق و الرعد و نزول المطر الغزیر، فیخصب الأرض و یمهّدها للإنبات، و هی عملیۀ اخري للّقاح فی التربۀ الصالحۀ، بین الماء و
. 1) الحجر: 22 ) .«2» الأرض
2) فیکون تلقیح من نوع ثالث هذه المرّة. تلقیح بالمعنی الحرفی للآیۀ الکریمۀ. )
ص: 146
(ثالثا) التکاثف، و هو عکس عملیۀ التبخّر، لیتحوّل بخار الماء من الحالۀ الغازیۀ الی حالۀ السیلان، فتنقلب ذرّات البخار الی قطرات
مائیۀ دقیقۀ، اذا کانت درجۀ الحرارة فوق الصفر المئوي، أو حالۀ جلیدیۀ بردا أو ثلجا، اذا کانت درجۀ الحرارة تحت الصفر، الأمر
الذي یعجز الهواء عن حمله، فتتساقط القطرات مطرا.
و هذا التکاثف إنّما یحدث اذا ما تصاعد الهواء المتشبّع ببخار الماء فی طبقات جوّیۀ ذات الضغط الأعظم، فبأثر الضغط العالی یتمدّد
الهواء و یفقد جزء کبیرا من حرارته، و بذلک یبرد و تنخفض درجۀ حرارته، درجۀ واحدة، مئویّۀ کلّما ارتفع 170 مترا.
غیر أنّ هذه النسبۀ تطّرد حتّی ارتفاع 5 کیلومترات عن سطح البحر. و بعده تتغیّر هذه النسبۀ، فتأخذ بالنقص باعتبار درجۀ واحدة مئویّۀ
لکل 100 مترا ارتفاعا. و تستمرّ هذه النسبۀ الی ارتفاع 12 کیلومترا حیث توجد طبقۀ هوائیۀ ثابتۀ الحرارة، تبلغ درجۀ حرارتها 55 درجۀ
مئویّۀ تحت الصفر.
و السحب تنعقد علی ارتفاعات لا تزید علی 6 أو 7 کیلومترات عن سطح البحر فی الأغلب.
و عملیۀ التبرید هذه بالتمدّد هی إحدي العوامل الفعّالۀ فی إحداث التکاثف.
و کذلک یبرد الهواء بشعّ حرارته کلّما لامس جسما باردا فی الجوّ أو علی فنحن أمام کلمۀ صادقۀ مجازا کما حمله المفسّرون
القدامی، و صادقۀ حرفیا کما أثبته العلم متأخّرا. و علی أيّ صورة قلّبتها فهی تصدق معک، و هی بعد کلمۀ جدیدة و غریبۀ، و صفۀ
مبتکرة حینما توصف بها الریاح!.
و هی بعد من الناحیۀ الجمالیۀ الایقاعیۀ ذروة، و فی النطق بها عذبۀ: وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ تنطقها و تلوکها فی فمک، فتستوقف السمع
و تطرب الاذن.
و کل هذا العلم التفصیلی فی تکهرب السحاب و انتقال حبوب اللقاح لم یکن معلوما أیّام نزول الآیۀ، فتدبّر.
صفحۀ 85 من 191
ص: 147
سطح الأرض مثل الثلج و الجلید، أو اذا تقابل مع هواء أبرد. و الشعّ ذو أثر فعّال فی تبرید الهواء و تکاثفه، و خاصۀ اذا هبّت الریاح من
جهۀ حارّة الی جهۀ باردة.
و فی الحقیقۀ لیس الهواء هو الذي یبرد بهذه الطریقۀ، و لکنّه (الهباء) الکثیر المنتشر فی الهواء، فیتّخذ البخار لنفسه مراکز من هذا
الهباء، یلتفّ حولها، و یتکوّن حول کلّ مرکز قطرة، فاذا اشتدّت برودة الجوّ الملبّد بالسحب استمرّ التکاثف، فتنضمّ قطرات السحب
المائیۀ الی بعضها، فیعجز الهواء عن حملها، فتتساقط أمطارا علی سطح الأرض بفعل جاذبیّتها.
فقد تبیّن أنّ المطر لا یحصل إلّا اذا توفّرت الشرائط الثلاثۀ متعاقبۀ: التبخّر فالتشبّع فالتکاثف.
و هذا هو الذي دلّت علیه الآیۀ الکریمۀ المنوّه عنها فی صدر المقال، فقد جاءت بوصف موجز مدهش، و محیّر للعقول.
إشارة الی عملیۀ التبخیر و تکوین السحب. و الإزجاء هو عملیۀ إثارة السحب و انتشالها بصورة « یزجی سحابا » : عبّرت أولا بقوله تعالی
أبخرة من البخار.
لأنّ الریاح بهبوبها علی سطح البحار هی التی تسبب التبخیر و التدافع بها للتصاعد و تتکاثف «1» ... اللَّهُ الَّذِي یُرْسِلُ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً
و تتکوّن سحبا.
* ثم عبّرت عن عملیۀ التشبّع بقوله تعالی: ثُمَّ یُؤَلِّفُ بَیْنَهُ لأنّ درجۀ الإشباع الکافی إنّما تتوقّف علی حصول التعادل و تساوي تبادل
الجزئیات بین الماء و الهواء.
و ما هذا إلّا التآلف و التعاضد بین تلک الجزئیات.
. و من ناحیۀ اخري، لا یحصل التشبّع إلّا بالتعادل و التآلف بین ضغطی بخار ( 1) الروم: 48
ص: 148
الماء و بخار الهواء. أو الاتّحاد بین نوعی الکهربائیۀ کما سبق بیانه.
و علیه فإنّ أصدق تعبیر عن هذه الظاهرة هو وصف التألیف، الذي جاء وصفه فی العلم بالتشبّع.
* ثم جاءت بقوله تعالی: ثُمَّ یَجْعَلُهُ رُکاماً. و هذا أبلغ تعبیر عن عملیۀ التکاثف الذي حقّقه العلم، إذ لا تفسیر للرکام سوي التکاثف و
تراکم بعض الشیء علی البعض مع ضغط. یقال: تراکم الشیء أي اجتمع بعضه مع بعض بکثرة و ازدحام. و الرکام: المتراکم بعضه
فوق بعض بضغط.
الودق: المطر. « فتري الودق یخرج من خلاله » : و بعد، فاذا ما تحقّقت الشرائط الثلاثۀ فعند ذلک
لأنّ کلّ عملیۀ إنّما تحصل بتعاقب مع فترة. أمّا النتیجۀ- و هو الإمطار- فجاءت بالفاء: « ثمّ » * و قد فصل تعالی بین العملیات الثلاث ب
تعاقبا بلا تأخیر، و هو الفور فی حصول نتیجۀ عملیۀ الإمطار.
فیا له من دقیق تعبیر، و سبحانه من علیم خبیر!.
ص: 149
الماء الاجاج
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً.
هل فی سنن الکون أن یتحوّل ماء المطر- الذي هو أنقی المیاه و أعذبها- إلی ماء اجاج لا یستساغ شربه و لا یطیب طعمه؟
الآیۀ قبلها تنصّ علی أنّ الماء الذي یشربه الناس و الدوابّ- و حتّی الذي یسقی به الزرع و النبات- هو الماء النازل من السماء: أَ فَرَأَیْتُمُ
.«2» أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْکُرُونَ «1» الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ
صفحۀ 86 من 191
إنّک تعرف أنّ الأرض ربعها یابس و ثلاثۀ أرباعها ماء، هذا الماء کلّه مالح اجاج. لکن اللّه تعالی بفضله و رحمته یقطر للإنسان و
الحیوان و النبات من هذا الماء الاجاج ماء عذبا فراتا سائغا للشاربین. أمّا جهاز التقطیر فلیس کمثله جهاز.
لا یسخن من تحت، کما یفعل الانسان فی تقطیراته التافهۀ، و لکن یسخن من فوق بنار تفوق حجم «3» البحار کلّها فی ذلک دست
الأرض بآلاف المرّات. فاذا ما تبخّر الماء بحرارة الشمس تکثف فی مکثف ناهیک من مکثف الجوّ المحیط کلّه و الجبال. و الریاح
مستمرّة دائبۀ فی حمل هذا البخار المتکاثف و نقلها إلی حیث یشاء اللّه. فاذا أمطرت السماء و سالت الأودیۀ و فاضت الأنهار و حملت
الخصب ( 1) المزن: السحاب المشبّع بالماء.
.70 - 2) الواقعۀ: 68 )
3) کلمۀ عامّیۀ بمعنی المرجل: القدر، و هو کلّ ما یغلی فیه الماء. )
ص: 150
و النماء الی الأقطار تبخّر بعض الماء و امتصّت الأرض منه بعضا و صار باقیه الی البحر الذي کان منه مصعده. لکن لیس شیء من
الماء بضائع! فما تمتصّه الأرض تتفجّر به بعد عیونا، و یتبخّر من الماء العذب أو یصیر الی البحر، فهو فی حرز حریز من الضیاع، إذ
مآله أن یصیر مرّة اخري ماء یحیی به الناس و الأنعام، و تحیی به الأرض بعد موتها. فالماء بین البحر و الجوّ و الیابسۀ فی دورة مقدّرة
متّصلۀ، لا انقطاع فیها و لا تنتهی أبدا، إلّا أن یشاء اللّه، هو ربّ کل شیء.
هکذا یتحوّل الماء من أصل مالح اجاج الی مقطّر عذب فرات، فی جهاز تقطر کهذا الجهاز العظیم فی جوّ السماء.
و بعد، فهل هناك ما یحول دون هذا التحوّل فی الماء فینزل من السماء اجاجا لا یستساغ شربه و لا یطیب طعمه؟
أجاب العلماء: نعم، إنّ فی الجوّ من العوامل ما یمکنها الحئول دون هذا التحوّل و الانقلاب، لو لا رحمته تعالی بالعباد، و قد جعل
حواجز دون هذا الحئول.
.«1» للعلّامۀ محمّد أحمد الغمراوي « سنن اللّه الکونیۀ » جاء فی کتاب
إنّ عذوبۀ الماء الذي یسقیهم اللّه إیّاه من السحاب هی بمحض رحمته تعالی.
إنّ الماء طبعا عذب بطبیعته، و ماء المطر معروف أنّه أنقی المیاه، لکن طبیعۀ تکوّنه من السحاب تعرضه لأن ینقلب اجاجا لا ینتفع به
الإنسان.
و ذلک لأنّ الهواء خلیط من عناصر عدّة تختلف نسبۀ وجودها مع البعض، و أهمّ تلک العناصر هو النتروجین (الآزوت)، و نسبۀ
20 ). و الارجون ( 79 %). و ثانی اوکسید الکاربون / 78 ) بالمائۀ. ثمّ الاوکسجین، و نسبۀ وجوده ( 96 / وجوده فی الهواء تعادل ( 21
. 1) نقلا عن کتاب بصائر جغرافیۀ: ص 220 ) .(%4)
ص: 151
و عناصر الهواء موجودة فیه بصورة اختلاط میکانیکی، و لیست ممزوجۀ امتزاجا کیماویا. و معنی ذلک أنّها لا تتفاعل مع بعضها، و أنّ
کلّا منها محتفظ بکیانه مستقلّا کأن لا وجود للعناصر الاخري.
و فی هذا من الحکمۀ البالغۀ و النعمۀ السابغۀ ما لا یکاد یخفی، إذ لو لا ذلک لاکتسب الهواء ممیّزات و خواصّا کیماویۀ اخري
تختلف عن ممیّزاته الحالیۀ، فلم تکن تصلح للحیاة بشکلها المعروف، و تنوّعاتها التی نشاهدها علی سطح الکرة.
خذ مثلا أنّ غاز الآزوت لا یتّحد مع غیره اتّحادا کیماویا إلّا بصعوبۀ و بشرائط ملائمۀ خاصّ ۀ، فیتّحد فی مثل هذه الظروف مع غاز
الاوکسجین، مکوّنا ما یسمّونه بحامض الآزوتیک أو النتریک، و هو ما یعرف عند القدماء بماء الفضّۀ، و هو أقوي الحوامض و أضرّها
علی حیاة الإنسان بالذات. فلو کان الغازان یمتزجان مع بعضهما امتزاجا کیماویا بسهولۀ و یسر و بلا واسطۀ أعمال کیماویۀ، لانقلب
الجوّ جهنّم سعیرا، لأنّه بذلک کان الغازان یستحیلان فی الجوّ حامضا فتّاکا، و لأمطرت السماء ماء الف ّ ض ۀ بدلا من الماء العذب
صفحۀ 87 من 191
الفرات، و ما هو إلّا شواظ من نار و لهیب جهنّم لا یبقی و لا یذر، فسبحانه و تعالی من رءوف رحیم.
.«1» قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِکَ فَلْیَفْرَحُوا
و إذ قد عرفت أنّ أربعۀ أخماس الهواء هو الآزوت (النتروجین) و هذا الغاز لا یکاد یتّحد فی العادة بشیء و لا بالاوکسجین الذي
یکاد یتّحد بکل شیء لکن الکیماویین وجدوا أنّهم یستطیعون بالکهربائیۀ أن یحوّلوا الآزوت غیر الفعّال الی آزوت فعّال یتّحد بأشیاء
کثیرة فی درجۀ الحرارة العادیۀ. کما وجدوا أنّهم یستطیعون أن یحملوا الآزوت علی الاتّحاد بالاوکسجین بإمرار الشرر الکهربائی فی
. مخلوط منهما. و من هذا الاتّحاد ینشأ بعض أکاسید للآزوت، قابل للذوبان فی ( 1) یونس: 58
ص: 152
الماء، و اذا ذاب فیه اتّحد به و کوّن حمضین آزوتیین، أحدهما: حمض الآزوتیک (أو ماء النار) کما کان یسمّیه القدماء. و إلیه یصیر
الحمض الثانی.
و قلیل من حمض الآزوتیک فی الماء کاف لإفساد طعمه.
و أظنّک الآن بدأت تدرك الطریق الذي یمکن أن ینقلب به ماء المطر ماء اجاجا من غیر خرق لنوامیس الطبیعۀ و لا تبدیل لسنّۀ اللّه
التی جرت فی الخلق، فهو نفس الطریق الکهربائی الذي یتکوّن به المطر، و کلّ الذي یلزم أن یتعدّل التفریغ الکهربائی أو یتکرّر فی
الهواء تکرارا یتکوّن به مقدار کاف من الأکاسید الآزوتیۀ یذوب فی ماء السحاب و یحوّله حمضیا لا یستسیغه الناس.
و هذا هو موضع منّ اللّه علی الناس، إنّه یکیّف التفریغ بالصورة التی ینزل بها المطر، و لا یؤجّ بها الماء.
إنّ شیئا من ذینک الحمضین لا بدّ أن ینزل فی ماء العواصف، و هذا ضروريّ لحیاة النبات، لکن اللّه برحمته و حکمته قدّر تکوینه
بحیث لا یتأذّي به إنسان و لا حیوان، و لو شاء اللّه لکثّره فی ماء المطر فأفسده علی الناس.
و سواء شکر الناس هذه النعمۀ أم کفروها فإنّ قوله تعالی: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً إشارة الی تلک العوامل الکهربائیۀ التی یتکوّن بها
المطر. یفهمها من یفقه تلک الحقائق السابقۀ، و من یعرف أنّ الطریق الکهربائی هو أحد الطرق العلمیۀ التی یمکن بها تحویل الآزوت
الجوّي إلی حمضی. فسبحان الذي أتقن صنع کلّ شیء و أحکمه إحکاما.
ص: 153
.«2» وَ جَعَلْنا فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِهِمْ «1» وَ الْجِبالَ أَوْتاداً
عبّر القرآن الکریم عن الجبال بالأوتاد، و أبان عن وجه الحکمۀ فیها هی محافظۀ الأرض دون أن تضطرب بأهلها. فکیف هذا الإیتاد؟
و کیف ذاك المیدان الذي حال دونه وجود الجبال؟
و لفهم هذا الجانب من السؤال لا بدّ من النظر فی تعابیر القرآن أوّلا، ثمّ ما تعرّضه معطیات العلم الحدیث.
.«4» و کانت العاشرة قوله تعالی: وَ الْجِبالَ أَرْساها ،«3» جاء التعبیر بالرواسی عن الجبال فی تسع آیات
و الوتد: المسمار و کلّ ما رزّ فی الحائط أو الأرض من خشب و نحوه لیمسک به الشیء کالخباء و شبهه.
.«5» قال الامام أمیر المؤمنین علیه السّلام: و أرّزها فیها أوتادا
أي أثبت الجبال فی الأرض ثبوت الأوتاد، رسوخا و إحکاما.
. أي ثبّتها فیها لتحول دون اضطرابها. ( 1) النبأ: 7 . «6» قال علیه السّلام: و وتّد بالصخور میدان أرضه
. 2) الأنبیاء: 31 )
. 3) الرعد: 3، و النمل: 61 ، و الحجر: 19 ، و ق: 7، و النحل: 15 ، و لقمان: 10 ، و الأنبیاء: 31 ، و فصّلت: 10 ، و المرسلات: 27 )
. 4) النازعات: 32 )
. 5) نهج البلاغۀ (صبحی الصالح): الخطبۀ رقم 211 ص 328 )
صفحۀ 88 من 191
. 6) نهج البلاغۀ (صبحی الصالح): الخطبۀ الاولی ص 39 )
ص: 154
و المید و المیدان: الحرکۀ و الاضطراب ضدّ السکون و الهدوء.
و فی خطبۀ اخري أوضح هذا المعنی بتفصیل أکثر، قال: و جبل جلامیدها، و نشوز متونها و أطوادها، فأرساها فی مراسیها، و ألزمها
قراراتها. فمضت رءوسها فی الهواء، و رست اصولها فی الماء. فأنهد جبالها عن سهولها، و أساخ قواعدها فی متون أقطارها، و مواضع
أنصابها. فأشهق قلالها، و أطال أنشازها. و جعلها للأرض عمادا، و أرّزها فیها أوتادا. فسکنت علی حرکتها من أن تمید بأهلها، أو
.«1» تسیخ بحملها، أو تزول عن مواضعها. فسبحان من أمسکها بعد موجان میاهها
و إلیک شرح الغریب من ألفاظ الخطبۀ:
جلامید: جمع جلمود، و هو الصخر الصلب. و جبل الشیء بمعنی خلقه و فطره، و منه الجبلّۀ بمعنی الفطرة و أصل الخلقۀ.
و أنهد الشیء: رفع به و عظّمه. و منه النهد بمعنی الثدي. یقال: نهد الثدي أي کعب و انتبر و أشرف.
و الأنصاب: جمع نصب هی مواضع نصب الجبال.
و ساخ فی الشیء: غاص فیه و رسب. و ساخ بالشیء: انخسف به. و الموجان:
الهیاج.
و أمّا ما یستفاد من هذا الکلام الذهبی فشیء کثیر، نشیر الی ما یخصّ المقام من دلائل جلائل:
« و رست اصولها » : قوله علیه السّلام
أي رسخت اصول الجبال فی أعماق الأرض حیث المیاه الجوفیۀ. و لعلّه إشارة الی جذور الجبال متّصلۀ بعضها ببعض، المعبّر عنها
. بسلاسل جبلیۀ محیطۀ بالأرض. ( 1) نهج البلاغۀ (صبحی الصالح): الخطبۀ رقم 211 ص 328
ص: 155
کأنّه إشارة الی مبدأ حدوث الجبال علی سطح الأرض، بعد أن کان مستویا، فتجعّد علی أثر برودة « فأنهد جبالها عن سهولها » : قوله
القشرة، فکانت نتوءات و انخفاضات، و بذلک انقسم وجه الأرض الی مرتفعات شامخات و هضبات، و الی ودیان و سهول.
« و أساخ قواعدها فی متون أقطارها و مواضع أنصابها » : قوله
أصرح فی الدلالۀ علی السلاسل الجبلیۀ المکتنفۀ بالأرض من جمیع أقطارها.
« و جعلها للأرض عمادا، و أرّزها فیها أوتادا » : قوله
لأنّها هی التی حالت دون تفتّتها و دون اضطراب قشرتها، و دون خروجها عن مداراتها.
تلک ثلاث خلال، جاءت فی وصف الامام علیه السّلام، لبیان حکمۀ نتوء الجبال و تسلسلها الماسکۀ بأکناف الأرض، و إلیک شرح
هذا الجانب:
«.. فسکنت علی حرکتها من أن تمید بأهلها، أو تسیخ بحملها، أو تزول عن مواضعها » : قال علیه السّلام
تلک ثلاث فوائد و حکم جاءت فی کلامه:
(أولا) هدأت- رغم حرکتها الانتظامیۀ- من المیدان و الاضطراب، فهی تتحرّك بهدوء و اتّزان، لا ترتعش و لا تمید و لا تضطرب.
(ثانیا) هدأت و اطمأنّت و استحکمت قشرتها و صلبت، فلا تسیخ و لا تنخسف و لا تتشقق قشرتها، و إلّا لأصبحت قشرة الأرض کلّها
براکین و فوهات و نافورات بالموادّ المنصهرة و الجلامید المذابۀ.
(ثالثا) هدأت و انتظمت فی حرکاتها الوضعیۀ و الانتقالیۀ علی أنحائها و أنواعها، و التی بها انتهجت الحیاة علیها منهجها الرتیب، فلا
تمیل عن مواضعها فی دوائرها الدائرة فیها بانتظام.
صفحۀ 89 من 191
هذه ثلاث حکم بیّنها الامام علیه السّلام أثرا لوجود سلاسل الجبال فی الأرض، الأمر الذي یدعمه العلم باکتشافاته و بحوثه و تجاربه.
و توضیحا لهذا الجانب نقول: إنّ هذا الأثر العظیم للجبال- فی إمکان الحیاة
ص: 156
علی وجه الأرض- إنّما یعلّله جانب صخریۀ السلسلۀ الجبلیۀ المنبثّۀ فی القشرة الأرضیۀ الصلبۀ، و المتشابکۀ بعضها مع بعض کأطواق
محیطۀ بأکناف الأرض.
و من ثمّ فالذي یلفت إلیه کلام الامام علیه السّلام فی اولی خطبۀ نهج البلاغۀ هو تبدیل التعبیر بالجبال الی التعبیر بالصخور،
،« و وتّد بالصخور میدان أرضه » : قال
و هو جانب ذو أهمیّۀ کبیرة، حیث الأمر مرتبط بصخریۀ السلاسل «1» تفسیرا لقوله تعالی: وَ جَعَلْنا فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِهِمْ
الجبلیۀ دون سائر جوانبها، الأمر الذي یستلفت الأنظار.
و إلیک بعض الکلام عن سلسلۀ الصخور الجبلیۀ، و دورها فی توازن الأرض و انتظام حرکتها.
إنّ لسلسلۀ الصخور الجبلیۀ- رافعۀ و خافضۀ- دورها الخطیر فی توازن الأرض و تماسک أجزائها، و هکذا ثبات قشرتها و صلابتها
دون تلوّیها و اضطرابها، رغم توهّج باطنها و التهاب لظاها.
و من درس علوم الطبیعۀ یعلم أنّ الأرض مطوّقۀ بأطواق من السلاسل الجبلیۀ التی جعلت الأرض أشدّ تماسکا. و قد یعرف حکمۀ
وجهۀ امتدادها و کیفیۀ اتّصالها مع بعضها، بحیث تکوّنت منها أطواق جبلیۀ طوّقت الأرض تطویقا علی نظام بدیع متقن ممّا یستلفت
الأنظار، فاذا نظرنا الی خارطۀ عالمیۀ طبیعیۀ فیها التضاریس الأرضیۀ ظاهرة ظهورا جلیا نري السلاسل الجبلیۀ تمتدّ فی کلّ قارّة علی
طولها بصورة عمومیۀ لا علی عرضها، فتکون بمثابۀ عمود فقري لکلّ منها، و حتّی اذا لاحظنا أشباه الجزائر فی کلّ قارّة فلا بدّ أن نري
السلاسل ممتدّة علی أطول قسم منها، و کذلک الجزائر الجبلیۀ، مهما کانت صغیرة أو کبیرة، امتدّت فیها السلاسل علی طولها أیضا.
. 1) الأنبیاء: 31 )
ص: 157
و قد ثبت بصورة قطعیۀ، و ذلک عن طریق سبر قاعات البحار و المحیطات.
أنّ الغالب من الجزائر و مرتفعاتها ما هی إلّا امتدادا للسلاسل الجبلیۀ و جزء منها، حیث انغمر قسم بماء البحر و بقی القسم الآخر
کجزائر ظاهرة علی سطح الماء.
فالقارّات کلّها تتّصل بعضها ببعض بسلاسل جبلیۀ عن طریق البرّ أو البحر.
و ممّا یستلفت الأنظار أیضا وجود طوق من السلاسل تحت البحر قلیلا قرب الساحل الشمالی للقارّات الثلاث الشمالیۀ، یطوّق المحیط
المتجمّد القطبی الشمالی تطویقا، و قد ظهرت منه کثیر من الجزر التی تحفّ بهذا الساحل.
و یقابل ذلک من الجهۀ المضادّة من الأرض طوق آخر من السلاسل یطوّق القارّة القطبیۀ المتجمّدة الجنوبیۀ، و ترتبط بالطوقین
المذکورین ارتباطا وثیقا أطواق اخر لسلاسل جبلیۀ ممتدّة فی القارّات و فی المحیطات من الشمال الی الجنوب، کانّها إطارات
.«1» تشابکت بعضها ببعض، فاستمسک بعري الأرض دون التفتّت و الانبثاث و تفرّق ذرّاتها هباء فی الفضاء
و من جانب آخر کانت الأرض ذات لهب فی باطنها، إنّها نار موقدة ذات تغیّض و زفیر، تکاد تمیّز من الغیظ، و تحاول تحطیم القشرة
المحیطۀ بها لو لا صلابتها و سمکها الثخین. و ما هذه الزلازل و نافورات البراکین إلّا جانبا ضئیلا من تلک الثورة و الفورة الناریۀ و
المتوهّجۀ فی باطن الأرض.
إنّ صلابۀ القشرة الأرضیۀ العلیا- التی بردت منذ أحقاب من الزمان- هی التی کفحت من جماح باطنها المتوقّد، و لو لا صلابتها و
ضخامۀ سمکها لتلوّت و اضطربت اضطراب الأرشیۀ، و لکانت الزلازل و الهزّات الأرضیۀ مستمرة علی أشدّها، و لعمّت وجه الأرض
صفحۀ 90 من 191
کلّها. هذا الی جانب أخطار خسف الأرض بأهلها و تشقّق أکنافها، لو لا أنّ اللّه تعالی أمسکها بفضله و أسکنها برحمته. ( 1) بصائر
.104 - جغرافیۀ: ص 100
ص: 158
.«1» إِنَّ اللَّهَ یُمْسِکُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا
هکذا قال سیّدنا الاستاذ الطباطبائی قدّس سرّه عند قوله تعالی: وَ جَعَلْنا فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِهِمْ: فیه دلالۀ علی أنّ للجبال
.«2» ارتباطا بالزلازل، و لولاها لاضطربت الأرض بقشرتها
قال سیّد قطب: الآیۀ تقرّر أنّ هذه الجبال الرواسی تحفظ توازن الأرض، فلا تمید بهم و لا تضطرب. و حفظ التوازن یتحقّق فی صور
شتّی، فقد یکون توازنا بین الضغط الخارجی علی الأرض و الضغط الداخلی فی جوفها، و هو یختلف من بقعۀ الی بقعۀ. و قد یکون
بروز الجبال فی موضع معادلا لانخفاض الأرض فی موضع آخر. و علی أیّۀ حال فهذا النصّ یثبت للجبال علاقۀ بتوازن الأرض و
استقرارها.
.«3» فلنترك للبحوث العلمیۀ کشف الطریقۀ التی یتمّ بها هذا التوازن، فذلک مجالها الأصیل
و قال الاستاذ الطنطاوي: مرّت علی الأرض أدوار ستۀ مقسّمۀ الی 26 طبقۀ، و الدور الأوّل منها کان عبارة عن الزمن الذي کوّن فیه
صلبۀ، و معلوم أنّ الأرض کانت نارا ملتهبۀ فبردت قشرتها و صارت صوانیۀ، و هی الغلاف «4» علی الکرة الأرضیۀ الناریۀ قشرة صوانیۀ
الحقیقی لتلک الکرة الناریۀ، و لا تزال الأرض تخرج لنا من أنفاسها المتضایقۀ و نارها المتّقدة فی جوفها کلّ وقت نارا بالبراکین.
فهذه البراکین أشبه بأفواه تتنفّس بها الأرض لتخرج بعض النار من باطنها، ثمّ یخرب ذلک البرکان و ینفتح برکان آخر. و هذه
. البراکین تخرج نارا و موادا ذائبۀ ( 1) فاطر: 41
. 2) المیزان: ج 14 ص 305 )
. 3) فی ظلال القرآن: ج 5 ص 531 )
4) ضرب من الحجارة فیه صلابۀ یتطایر منه الشرر عند قدحه بالزند، استعمله الانسان فی عصر ما قبل التاریخ فی صناعۀ أدواته )
البسیطۀ و فی آلات الصید، و هو حجر صلد من المرو یوجد فی شکل عروق بطبقات الحجر الجیري من الارض.
ص: 159
تدلّنا علی أصل أرضنا، و ما کانت علیه قبل الدهر.
لولاها لتفجّرت ینابیع النار من سائر أطرافها کما کانت بعد ما انفصلت من الشمس کثیرة الثورات و الفوران. و «1» فهذه القشرة الصلبۀ
هذه القشرة الصوانیۀ البعیدة المغلّفۀ للکرة الناریۀ هی التی نبتت منها هذه الجبال التی نراها فوق أرضنا، کما یقوله علماء طبقات
الأرض.
فمن هنا ظهر أنّ هذه الجبال جعلت لحفظها من أن تمیل، لأنّ الطبقۀ الصوانیۀ هی الحافظۀ لکرة النار التی تحتها، و الکرة الصوانیۀ هذه
نبتت لها أسنان طالت و امتدّت حتی ارتفعت فوق الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقی ما تحتها مفتوحا، و إذ ذاك تثور البراکین آلافا
مؤلّفۀ و تضطرب الأرض اضطرابا عظیما و تزلزل زلزالا شدیدا، لأنّ البراکین و ثورانها زلزلۀ.
ثمّ إنّ هذه الجبال قطعۀ من القشرة، غایۀ الأمر أنّها ارتفعت، فما هی إذا إلّا حافظۀ للکرة الناریۀ التی لو ترکت لشأنها لاضطربت فی
أقرب من لمح البصر، فأهلکت الحرث و النسل.
هذه هی المعجزة الاخري للقرآن العظیم، لأنّ السابقین کانوا یؤمنون به فقط.
فظهور ذلک الیوم من المعجزات القرآنیۀ.
فلو فرضنا أنّ الکرة الأرضیۀ کرة ،«2» و لقد أجمع العلماء قدیما و حدیثا أنّ الجبال علی الأرض لا قیمۀ لها بالنسبۀ للکرة الأرضیۀ
صفحۀ 91 من 191
و لو أنّ الأرض کرة قطرها متر ( 1) و قدر سمک القشرة .«3» قطرها ذراع لم یکن أرفع الجبال فوقها إلّا کنحو نصف سبع شعیرة فوقها
.( الصلبۀ الأرضیۀ العلیا بمئات الأمیال (مبادئ العلوم: ص 43
1450 تقریبا، و / 2) یبلغ أعلی قلل جبال الأرض هملایا 8700 مترا. بینما قطر الأرض یبلغ 12750 کیلومترا. و النسبۀ بینهما تعادل 1 )
.( هی نسبۀ ضئیلۀ جدّا. (راجع مبانی جغرافیاي انسانی لجواد صفینژاد: ص 17
3) الذي ذکره شارح الچغمینیّۀ أنّه نسبۀ سبع عرض شعیرة الی کرة قطرها ذراع و هو أربعۀ )
ص: 160
فقط. فما هذا الجزء الیسیر بالنسبۀ لتلک الکرة العظیمۀ حتّی یمنع میلها و سقوطها! «1» واحد لم تزد الجبال علیها ملیمترا واحدا و نصفه
نعم، کان الناس یؤمنون بظاهره، و قد ظهرت هذه النبوءة فعلا فی العلم الحدیث، و لم تظهر إلّا علی ید من کفروا بدین الاسلام، و
.«2» المسلمون لا یعلمون إلّا من الفرنجۀ، و نحن نکتب ذلک عنهم، فمنهم و إلیهم
فصدق اللّه و جاءت المعجزات العلمیۀ فی القرآن تتري کلّما تقدم العلم و ازدهرت حقائق العلوم و تجلّت أسرار هذا الکون. و لم
یعرف تفسیر القرآن علی وجه علمیّ برهانیّ إلّا فی هذا العصر، و ستنکشف حقائق اخر فی مستقبل الأیّام، فللّه درّه من معجزة خالدة
خلود الزمان.
*** و تمخّض البحث بالنتائج الثلاث التالیۀ:
-1 إنّ للجبال (أي الصخور الجبلیۀ المکتنفۀ بالأرض) أثرا مباشرا فی توازن الأرض دون أن تضطرب، فتحید عن مداراتها المنتظمۀ
المؤثرة فی تنظیم الحیاة علیها.
« أو تزول عن مواضعها » : و قد أشار إلیه الامام أمیر المؤمنین علیه السّلام فی کلامه الآنف
-2 و هکذا حالت صلابۀ القشرة و ضخامۀ سمکها- و هی صخور جبلیۀ- دون زلزالها و اهتزاز قشرتها، علی أثر توهّج باطنها، لو .
کانت القشرة هزیلۀ أو ذات لین.
و الی ذلک
و عشرون اصبعا، و الاصبع ستۀ شعیرات. قال: و یلزم أن یکون کنسبۀ الواحد الی .« من أن تمید بأهلها » : أشار الامام علیه السّلام بقوله
.(13 - ألف و ثمانیۀ (شرح چغمینی: ص 12
1) و لعلّ هنا سهوا، و الصحیح أن النسبۀ ملیمتر واحد علی کرة قطرها متر و نصف تقریبا. )
.199 - 2) تفسیر الجواهر: ج 10 ص 198 )
ص: 161
-3 کما أنّ لتطویق الأرض بالسلاسل الجبلیۀ و الصخور الصلبۀ المحیطۀ بأکناف الأرض عاملا فی تماسک أشلائها و حافظا عن
تشقّقها أو تعاقب الانخسافات علیها.
و إلیه أ
.« أو تسیخ بحملها » : شار علیه السّلام بقوله
!« فسبحان من أمسکها بعد موجان »
ص: 162
مسیرة الأرض و الجبال
اشارة
صفحۀ 92 من 191
اشارة
.«1» وَ تَرَي الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِیَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ کُلَّ شَیْءٍ
الجمود: نقیض السیلان، و یقال للثلج: جمد، بهذا الاعتبار. و یقال: جمدت العین اذا هدأت و لم یجر دمعها. و یقال للأرض و للسنۀ:
جماد، اذا اصابهما جدب، لا کلاء و لا خصب و لا مطر.
قال الفیروزآبادي: یقال: ناقۀ جماد اذا کانت بطیئۀ فی سیرها شبه الواقفۀ.
و من ذلک کلّه یعرف أنّ هذه اللفظۀ تستعمل فی موارد، کان من طبعها السیر و الحرکۀ فوقفت وقوف عارض. و صحّ إطلاق الجماد
علی الجبال باعتبار همودها فی رأي العین، و من ثمّ قال المفسّرون: جامدة أي واقفۀ لا حراك فیها. و یؤیّده التقابل بمرور السحاب
أي حرکتها فی جوّ السماء.
.«2» أي تسیر فی مسیرتها الحثیثۀ کمسیرة السحب فی الفضاء. روي ذلک عن ابن عبّاس « و هی تمرّ مرّ السحاب » : فقوله تعالی
و لیست حرکۀ الجبال فی مسیر الفضاء سوي حرکۀ الأرض الانتقالیۀ فی دورتها السنویۀ حول الشمس، أو حرکتها الوضعیۀ حول
نفسها. و علی کلا المعنیین فیدلّ ذلک علی حرکۀ الأرض دون وقوفها و هدوئها. و هذا بالرغم من الرأي السائد ذلک الحین القائل
. بسکون الأرض و کونها فی مرکز الأفلاك الدائرة حولها. ( 1) النمل: 88
. 2) مجمع البیان: ج 7 ص 236 )
ص: 163
و جاءت دلالۀ الآیۀ علی حرکۀ الأرض دلالۀ تبعیّۀ، من قبل نسبتها الی مجموعۀ الجبال، فالجبال بمجموعتها تسیر سیرها الحثیث، الأمر
الذي لا یکون إلّا بحرکۀ کتلۀ الأرض کلّها.
*** أمّا و ما هذه الحرکۀ و ما هذه المسیرة الأرضیۀ؟
-1 قال أکثر المفسّرین: إنّها تسییر الجبال نحو الفناء، إحدي علائم قیام الساعۀ نظیر قوله تعالی: وَ یَوْمَ نُسَیِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَي الْأَرْضَ بارِزَةً
.«3» و قوله: وَ سُیِّرَتِ الْجِبالُ فَکانَتْ سَراباً .«2» و قوله: یَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً* وَ تَسِیرُ الْجِبالُ سَیْراً «1» وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً
.«4» الی غیرهنّ من آیات کثیرة بنفس المضمون
.«5» قال الإمام الرازي: اعلم أنّ هذا هو العلامۀ الثالثۀ لقیام القیامۀ، و هی تسییر الجبال
و قال سیّدنا الطباطبائی قدس سرّه: بما أنّ الآیۀ واقعۀ فی سیاق آیات القیامۀ، و محفوفۀ بها فهی تصف بعض مشاهد ذلک الیوم
أي تلک حالتها «6» تمثیل لتلک الواقعۀ، نظیر قوله: وَ تَرَي النَّاسَ سُکاري « و تري الجبال » : الرهیب، و من جملتها تسییر الجبال. و قوله
.«7» المشهودة فی ذلک الیوم العصیب لو کنت شاهدها
لکن لحن الآیۀ ذاتها تأبی هذا الحمل، و لا سیّما مع تذییلها بقوله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ کُلَّ شَیْءٍ. الأمر الذي یدلّ علی أنّها بصدد بیان
مظهر من مظاهر قدرته تعالی و لطیف صنعه. و قضیۀ السیاق موهونۀ- بعد ملاحظۀ ما قدّمنا فی الجزء الأول- من أنّ ترتیب الثبت
. الحاضر لا یدلّ علی نزولها تباعا بلا فترة زمان. ( 1) الکهف: 47
. 2) الطور: 9 و 10 )
. 3) النبأ: 20 )
. 4) مریم: 90 ، الواقعۀ: 5، الحاقّۀ: 14 ، المعارج: 9، المزّمّل: 14 ، المرسلات: 10 )
. 5) التفسیر الکبیر: ج 24 ص 220 )
. 6) الحجّ: 2 )
. 7) المیزان: ج 15 ص 440 )
صفحۀ 93 من 191
ص: 164
-2 و قال بعضهم: إنّها الحرکۀ الجوهریۀ، و إنّ ما فی الوجود یسیر قدما نحو الکمال المطلق، سواء أ کان إنسانا یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّکَ
.«2» أم حیوانا أم نباتا أم جمادا کُلٌّ إِلَیْنا راجِعُونَ «1» کادِحٌ إِلی رَبِّکَ کَدْحاً فَمُلاقِیهِ
قال سیّدنا الطباطبائی: قد تحمل الآیۀ علی الحرکۀ الجوهریۀ، و أنّ الأشیاء کلّها- و منها الجبال- تتحرّك بجوهرها الی غایۀ وجودها،
لأنّ الجمود هو السکون المحض، « تحسبها جامدة » : و هی حشرها، و رجوعها إلی اللّه سبحانه. قال: و هذا المعنی یناسبه التعبیر بقوله
فی حین أنّها فی تحوّل و تنقّل، هادفۀ ساحۀ قدسه تعالی! قال: و هذا المعنی أنسب من المعنی الأوّل بإرادة قیام الساعۀ.
-3 و قال آخرون: إنّها الحرکۀ الطبیعیۀ الکامنۀ فی ذوات الأشیاء، إذ کلّ موجود هو فی تحوّل و تغییر دائب مستمرّ، و ما من ذرّة فی
عالم الوجود إلّا و هی تتبدّل الی غیرها و تتجدّد حسب الآنات و الأحوال، و کلّ شیء هو فی کلّ آن خلق جدید. إِنَّکُمْ لَفِی خَلْقٍ
ما هذا السؤال المستمرّ؟ إنّها مسألۀ الإفاضۀ، إفاضۀ الوجود من «4» یَسْئَلُهُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ کُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی شَأْنٍ .«3» جَدِیدٍ
ربّ العالمین، و من ثمّ فهو تعالی فی کلّ لحظۀ من لحظات حیاتنا فی خلق جدید.
قال الاستاذ محمّد تقی الجعفري، إنّ من فی السماء و الأرض من عالم الوجود إنما یسأله تعالی الاستمرار بالإفاضۀ علیه من قوي و
.«5» استعدادات و إبقاء لوجوده خلقا بعد خلق
. -4 إنّها حرکۀ الأرض الوضعیۀ و الانتقالیۀ، و مسألۀ حرکۀ الأرض أمر تنبّه له ( 1) الانشقاق: 6
. 2) الأنبیاء: 93 )
. 3) سبأ: 7 )
. 4) الرحمن: 29 )
5) راجع الحرکۀ و التحوّل من النظرة القرآنیۀ: ص 49 فما بعد. )
ص: 165
کثیر من العلماء الأقدمین ك (فیثاغورث الحکیم) عاش قبل المیلاد بخمسۀ قرون. و تبعه علی ذلک (فلوطرخوس) و (أرخمیدس). و
أیّده الحکیم (ارسترخوس) الذي جاء بعده بقرنین. و بعده (کلیانثوس) الذي أثبت للأرض حرکتین، یومیۀ و سنویۀ.
لکن فی هذا الأوان جاء الحکیم (بطلمیوس) فأنکر حرکۀ الأرض و اعتقد سکونها و کونها مرکز سائر الأفلاك. و ساد هذا النظام
الفلکی البطلمیوسی- بفضل دعمه بالرأي العام- حتی القرن السادس عشر للمیلاد، حیث نبغ الفلکی الشهیر (کوبرنیک) المتوفّی سنۀ
1544 م لیأخذ برأي (فیثاغورث). و هکذا توالی بعده العلماء مؤیّدین لهذا الرأي، بفضل المخترعات الفلکیۀ الحدیثۀ (المجاهر و
النظّارات المکبّرة).
و للسیّد هبۀ الدین الشهرستانی کلام طویل حول استظهار هذا الرأي من الآیۀ الکریمۀ نذکر ملخّصه:
قال: أول من تفطّن الی هذا الاستنباط من الآیۀ الشریفۀ هو الفاضل علی قلی ابن فتحعلی شاه القاجار. و جاء تأییده فی (النخبۀ
الأزهریۀ) ترجیحا علی تفسیر القدماء للآیۀ.
قال السیّد: و فی الآیۀ دلائل علی هذا الاستظهار:
و لا تهویل اذا کانت الجبال تري یوم القیامۀ فی ظاهرها هامدة و ساکنۀ فی مستقرّاتها. .« تحسبها جامدة » أولا: التعبیر بالجمود
ثانیا: التعبیر بالمرور مرّ السحاب، و هو یدلّ علی نعومۀ فی السیر، و لیس ممّا یهول.
.«1» و ثالثا: التشبیه بالسحب، و لا هول فی مشاهدة مسیرة السحاب
.99 - فصحّ أنّ الآیۀ لا تتناسب و کونها من أشراط الساعۀ أو إشارة الی أهوال یوم ( 1) الهیأة و الاسلام: ص 97
ص: 166
صفحۀ 94 من 191
القیامۀ.
.«1» و قال سیّدنا الطباطبائی: حمل الآیۀ علی إرادة حرکۀ الأرض الانتقالیۀ معنی جیّد لو لا منافاته للسیاق
و قد قدّمنا أنّ سیاق الآیۀ ذاتها- بقرینۀ الإشارة الی إحکام الصنع- ترجّح إرادة التفسیر الأول المتقدّم.
دحو الأرض
.«2» وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِکَ دَحاها
الدحو: الدحرجۀ. یقال: دحا الشیء بمعنی دحرجه، کما یدحرج الصبیان المداحی، و هی أحجار صغار أمثال القرصۀ، یحفرون حفیرة
فیدحون بها إلیها.
.«3» و تسمّی المسادي و المراصیع. و الدحو: رمی الملاعب بالجوز و شبهه
.«4» فمعنی دحو الارض: دحرجتها و زحلقتها علی بسیط الفضاء لتأخذ شکلها الکريّ فی التدویر
. فدحو الأرض إذا لیس مجرّد بسطها، کما زعمه اناس، و إنّما هو بسط مع ( 1) المیزان: ج 15 ص 442
. 2) النازعات: 30 )
. 3) الفائق للزمخشري: ج 1 ص 418 )
و قال الفیروزآبادي: مرصاع- کمحراب- دوّامۀ الصبیان، و کل شخبۀ یدحی بها، و الدوّامۀ لعبۀ من خشب یلفّ الصبی علیها خیطا ثم
ینقضه بسرعۀ فتدوم أي تدور علی الأرض.
(انظر الشکل فی المنجد). و عندنا فی العراق کانت تسمّی (المرصع) کملجم. و هی تشبه البیضۀ و فی قطبها السافل حدیدة محدّدة،
بها تدور علی الأرض. و لعلّ تسمیۀ البیضۀ دحیۀ فی الدیار المصریۀ کانت من جهۀ هذا التشابه. قال مصطفی محمود فی کتابه
(محاولۀ لفهم عصريّ للقرآن: ص 255 ): الدحیۀ: البیضۀ.
4) قال الاستاذ محمّد مصطفی الشاطر: ترجمۀ الدحو بمعنی البسط ضیاع للمعنی الذي یؤخذ من الدحو و هو التکویر غیر التامّ- )
کتکویر البیضۀ- مع الدوران، و لا یزال أهل الصعید- و أکثرهم من أصل عربی- یعبّرون عن البیض بالدحو أو الدحی أو الدح.
(القول السدید:
.(22 - ص 21
ص: 167
تکویر، یشبه الدوّامۀ فی جسمها الکريّ یتداحی بها الصبیان فی ألاعیبهم.
و هی اللفظۀ العربیۀ الوحیدة التی تفید معنی البسط و التکویر فی ذات الوقت.
و تکون من أدلّ الألفاظ علی شکل الأرض المنبسطۀ فی ظاهرها، المتکوّرة فی الحقیقۀ. الأمر الذي یوافقه أحدث الآراء الفلکیۀ عن
(42 / شکل الأرض: إنّها مفرطحۀ من جانبی قطبیها، و منبعجۀ علی خطّ الاستواء. فیزید قطرها الاستوائی عن قطرها القطبی بمقدار ( 6
.«1» کیلومترا
.12712 / 12754 . و قطرها القطبی: 2 / و هذا منتهی الإحکام و الدقّۀ فی اختیار اللفظ المناسب للتعبیر. ( 1) قطر الأرض الاستوائی: 8
.( (راجع بصائر جغرافیۀ لرشید رشدي البغدادي: ص 157
ص: 168
صفحۀ 95 من 191
مدّ الظلّ و قبضه
.«1» أَ لَمْ تَرَ إِلی رَبِّکَ کَیْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساکِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَیْهِ دَلِیلًا* ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَیْنا قَبْضاً یَسِیراً
إنّ الظلّ الوریف اللطیف الذي یوحی الی النفس المجهودة المکدودة بالراحۀ و النداوة و السکن و الأمان هو الظلّ الذي یبدأ بروحه
و نسیمه فور تحوّل الشمس هبوطا من قبّۀ السماء (دائرة نصف النهار). تکاد تمتدّ و تنبسط نفحتها کلّما أخذت الشمس تقترب من افق
مغربها. و اذا هی تبزغ أشعّتها عند الصباح، و اذا بالأظلّۀ تبدو علی أطولها، ثمّ تأخذ فی التناقص کلّما ارتفعت الشمس وسط السماء.
فهذا الظلّ یتحرّك مع حرکۀ الأرض فی مواجهۀ الشمس، فتتغیّر أوضاعه و امتداداته و أشکاله، و الشمس تدلّ علیه بضوئها و حرارتها
و تمیّز مساحته و امتداده و ارتداده.
و هذا المدّ و القبض إنّما هی بفعل حرکۀ الأرض حول محورها تجاه عین الشمس الوهّاجۀ، و هی تحصل فی کلّ 24 ساعۀ یوما
کاملا.
و شیء آخر: إنّ محور الأرض- فی دورتها حول نفسها- ینحرف قلیلا عن مستوي فلکها (أي مدارها السنوي) و یکون انحرافه بزاویۀ
23 درجۀ، الأمر الذي یسبّب تعاقب الفصول الأربعۀ. و کلّما ابتعدت الشمس عن خطّ الاستواء شمالا أو جنوبا فإنّ الظلال / قدرها 5
. تختلف امتدادا و تقلّصا، فلا یستوي الظلّ فی ( 1) الفرقان: 45 و 46
ص: 169
الشتاء مع الظلّ فی الصیف أو الخریف أو الربیع، سواء فی مناطق الاعتدال أو غیرها.
و علی أيّ تقدیر، فإنّ مدّ الظلّ و قبضه قبضا یسیرا ممّا ینبّئک عن حرکۀ للأرض، إمّا محوریۀ أو مداریۀ (وضعیۀ أو انتقالیۀ) أو
کلتیهما جمیعا.
و کیف کان فهو ظلّ النهار، یزداد و ینقص، حسب الأیّام و الشهور.
.«1» أمّا اللیل، فهی نعمۀ اخري جاء ذکرها فی الآیۀ التالیۀ لما سبق: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً
و هی رحمۀ إلهیۀ کبري، إذ جعل الأرض تدور حول محورها یومیا، طول سنتها التی هی 365 یوما. و بذلک أمکنت الحیاة علی وجه
الأرض من کلّ جوانبها علی سواء.
و معنی ذلک أنّ .«2» « شیاپرلی » أمّا کرة عطارد فإنّها تدور حول محورها بنفس دورتها حول الشمس، فی 88 یوما، کما حقّقه الفلکی
طول یومها یساوي سنتها أي دورتها حول الشمس. و نتیجۀ علی ذلک فإنّ وجها واحدا منه یتّجه نحو الشمس بصورة دائمیۀ، و لا
یتّجه النصف الآخر نحوها مطلقا.
و للسبب نفسه یکون أحد وجهیه ساخنا جدّا، إذ تبلغ درجۀ الحرارة علیه نحو 260 درجۀ مئویۀ، کما یکون الوجه المعاکس باردا
جدّا، و تبلغ درجۀ البرودة فیه نحو 80 درجۀ تحت الصفر المئوي، فهناك نهار سرمد، و لیل سرمد، و لذا لا یتوقّع وجود حیاة علی
.«3» سطح هذا الکوکب السیّار
. فی دورته حول الأرض. إذ تکمل دورته حول ( 1) الفرقان: 47 « القمر » و نظیر عطارد
. 2) راجع مبادئ العلوم: ص 37 ، و هامش الهیأة و الإسلام: ص 61 )
. 3) مبادئ العلوم: ص 36 )
.( و هکذا قیل عن الزهرة، فدورتها حول محورها تساوي دورتها حول الشمس فی 224 یوما من أیّام الأرض (بصائر جغرافیۀ: ص 261
ص: 170
الأرض فی مدّة تساوي دورته حول نفسه فی 28 یوما، و یصبح نصف سطح القمر مواجها للأرض أبدا، و نصفه الآخر مختفیا عن
صفحۀ 96 من 191
.«1» الأرض أبدا
فلیس من ناموس الطبیعۀ أن تختلف دورة کلّ کرّة دائرة حول کرة اخري عن دورتها حول نفسها، و إنّما هو شیء یتبع مصلحۀ یراها
الصانع تعالی فیما یراه فی الخلق و التدبیر.
فانظر الی آثار رحمۀ اللّه کیف جعل الظلّ فی الکوکب الأرضی متحرّکا غیر ساکن، و لم یجعله سرمدا کما جعله فی کوکب عطارد،
ذي اللیل و النهار السرمدین.
قُلْ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَیْکُمُ اللَّیْلَ سَرْمَداً إِلی یَوْمِ الْقِیامَۀِ مَنْ إِلهٌ غَیْرُ اللَّهِ یَأْتِیکُمْ بِضِ یاءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ
عَلَیْکُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلی یَوْمِ الْقِیامَۀِ مَنْ إِلهٌ غَیْرُ اللَّهِ یَأْتِیکُمْ بِلَیْلٍ تَسْکُنُونَ فِیهِ أَ فَلا تُبْصِ رُونَ* وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ
.«2» لِتَسْکُنُوا فِیهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ
الحمد للّه الذي جعل لنا الأرض مهدا و سلک لنا فیها سبلا. ( 1) و لمّا کان للقمر دورة ثالثۀ مع الأرض حول الشمس و فی هذه
الدورة تدور حول محورها فی 28 یوما یکون نهاره 14 یوما من أیّام الأرض و لیله 14 یوما. و من ثم فاللیل منه قارس البرودة، و النهار
.( منه شدید الحرّ، و عند ما تصل الشمس عمودیۀ تبلغ الحرارة فیه الی درجۀ الغلیان. (بصائر جغرافیۀ: ص 260
.73 - 2) القصص: 71 )
ص: 171
.«1» أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أَ یَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلی قادِرِینَ عَلی أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ
هذا کلام صدر فی مقام التحدّي، مشیرا بأنّ هناك معجزة کبري فی تسویته للبنان و بعثه علی صورته الاولی یکون أکبر من إحیاء
العظام البالیۀ، الأمر الذي لم یکشف سرّه إلّا بعد نزول الآیۀ بأکثر من ألف سنۀ، حینما عرف أنّ لکلّ إنسان بصمۀ خاصّۀ رسمت علی
بنانه، لا یتّفق اثنان فی بصمۀ واحدة، منذ أن خلق اللّه آدم حتّی التوائم. و هذا سرّ غریب فی الخلیفۀ أولا، و فی إشارة القرآن إلیه ثانیا.
سبحانه و تعالی من عظیم القدرة و عجیب البیان!.
و لکن لما ذا خصّص اللّه البنان دون سائر أجزاء البدن؟ و هل البنان أشدّ تعقیدا من العظام؟
لقد توصّل العلم الی سرّ البصمۀ فی القرن التاسع عشر، و بیّن أنّ البصمۀ تتکوّن من خطوط بارزة فی بشرة الجلد تجاورها منخفضات و
تعلو الخطوط البارزة فتحات المسام العرقیۀ، تتمادي هذه الخطوط و تتلوّي، و تتفرّع عنها تغ ّ ص نات و فروع، لتأخذ فی النهایۀ و فی کلّ
شخص شکلا ممیّزا، و قد ثبت أنّه لا یمکن للبصمۀ أن تتطابق و تتماثل فی شخصین فی العالم، حتّی فی التوائم المتماثلۀ التی أصلها
من بویضۀ واحدة.
. یتمّ تکوّن البنان فی الجنین فی الشهر الرابع، و تظلّ ثابتۀ و ممیّزة له طول ( 1) القیامۀ: 3 و 4
ص: 172
حیاته، و یمکن أن تتقارب بصمتان فی الشکل تقاربا، و لکنّهما لا تتطابقان البتۀ.
و لذلک فإنّ البصمۀ تعدّ دلیلا قاطعا و ممیّزا لشخصیۀ الإنسان، معمولا به فی کلّ بلاد العالم، و یعتمد علیه القائمون علی تحقیق
. 1) مع الطبّ: ص 23 ) .«1» القضایا الجنائیۀ لکشف المجرمین و اللصوص
ص: 173
لم یقل من الأحیاء، بل من کلّ شیء. فالکهرباء فیها الشحنۀ السالبۀ و الموجبۀ. و المغنطیسیۀ فیها «1» وَ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ خَلَقْنا زَوْجَیْنِ
الاستقطاب إلی قطبین. و فی الذرّة الألکترون و البوزیترون، و البروتون و النیوترون. و فی الکیمیاء العضویۀ: الجزيء الیساري و
الجزيء الیمینی. و نعرف الآن المادّة و المادّة المضادّة. و الثنائیۀ و الازدواجیۀ فی ترکیب الأحیاء و الجمادات. یکشف لنا العلم
.«2» أسرارها کلّ یوم
صفحۀ 97 من 191
و لعلّ اللقاح و التزاوج فی النبات أصبح مشهودا بعد ضرورة اللقاح و التزاوج فی الأحیاء (الإنسان و الحیوان). قال تعالی: وَ مِنْ کُلِّ
.«4» و الآیات بشأن أزواج النبات کثیرة .«3» الثَّمَراتِ جَعَلَ فِیها زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ
و ظاهرة التزاوج و اللقاح مفروضۀ علی کلّ موجود، نباتا کان أم انسانا، أم ممّا لا یعلمون الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ کُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ
.«5» مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا یَعْلَمُونَ
قال سیّد قطب: و هذه حقیقۀ عجیبۀ تکشف عن قاعدة الخلق فی هذه الأرض- و ربّما فی هذا الکون، إذ أنّ التعبیر لا یخ ّ صص
تشمل غیر الأحیاء أیضا. « شیء » الأرض- قاعدة الزوجیۀ فی الخلق. و هی ظاهرة فی الأحیاء. و لکن کلمۀ
. و التعبیر یقرّر أنّ الأشیاء کالأحیاء مخلوقۀ علی أساس الزوجیۀ. ( 1) الذاریات: 49
. 2) محاولۀ لفهم عصريّ للقرآن: ص 73 )
. 3) الرعد: 3 )
. 4) الحجّ: 5، و الشعراء: 7، و لقمان: 10 ، و ق: 7. و الرحمن: 52 ، و طه: 53 )
. 5) یس: 36 )
ص: 174
و حین نتذکّر أنّ هذا النصّ عرفه البشر (المسلمون) منذ أربعۀ عشر قرنا، و أنّ فکرة عموم الزوجیۀ- حتّی فی الأحیاء و لا سیّما النبات-
لم تکن معروفۀ حینذاك، فضلا عن عموم الزوجیۀ فی کلّ شیء ... حین نتذکّر هذا نجد أنّا أمام أمر عجیب عظیم ... و هو یطلعنا علی
الحقائق الکونیۀ فی هذه الصورة العجیبۀ المبکّرة کلّ التکبیر! کما أنّ هذا النصّ (القرآنی المعجز) یجعلنا نرجّ ح أنّ البحوث العلمیۀ
الحدیثۀ سائرة فی طریق الوصول الی الحقیقۀ. و هی تکاد تقرّر أنّ بناء الکون کلّه یرجع الی الذرّة، و أنّ الذرّة مؤلّفۀ من زوج من
.«1» الکهرباء: موجب و سالب! فقد تکون تلک البحوث اذا علی طریق الحقیقۀ فی ضوء هذا النصّ العجیب
و عن أکثر القدامی تفسیر الزوجین هنا بالجنسین المتقابلین، کالأرض و السماء، و البرّ و البحر، و اللیل و النهار، و السهل و الجبل، و
الشمس و القمر، و الجنّ و الإنس، و النور و الظلمۀ ... و ما إلی ذلک، و هکذا المعنویّات کالسعادة و الشقاء، و الخیر و الشرّ، و الهدي
و الضلال ... و نحو ذلک.
.«2» سوي ابن زید، فإنّه فسّره بالذکر و الانثی، و هو عجیب
قال الرازي- توجیها لما قاله الأقدمون-: و الزوجان: امّا الضدّان فإنّ الذکر و الانثی کالضدّین و الزوجان منهما کذلک، و امّا
المتشاکلان فإنّ کلّ شیء له شبیه و نظیر و ضدّ و ندّ. قال المنطقیون: المراد بالشیء الجنس، و أقلّ ما یکون تحت الجنس نوعان،
فمن کلّ جنس خلق نوعین من الجوهر، مثلا المادّي و المجرّد، و من المادّي النامی و الجامد، و من النامی المدرك و النبات، و من
.588 - 1) فی ظلال القرآن: ج 27 مجلّد 7 ص 587 ) .«3» المدرك الناطق و الصامت
. 2) راجع مجمع البیان للطبرسی: ج 9 ص 160 )
. 3) التفسیر الکبیر: ج 28 ص 227 )
ص: 175
العسل
اشارة
صفحۀ 98 من 191
وَ أَوْحی رَبُّکَ إِلَی النَّحْلِ أَنِ اتَّخِ ذِي مِنَ الْجِبالِ بُیُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا یَعْرِشُونَ* ثُمَّ کُلِی مِنْ کُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُکِی سُبُلَ رَبِّکِ ذُلُلًا
.«1» یَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِیهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
قال الدکتور نزار الدقر: النصوص القرآنیۀ التی وردت فی العسل هی أوضح و أرسخ النصوص القدیمۀ علی الإطلاق، کما أنّها تعتبر
.«2» من أوائل النصوص التی جزمت بالفائدة المطلقۀ، و بالخصوص العلاجیّۀ الثابتۀ لهذه المادّة القدیمۀ
و لأصحاب النظر فی الطبّ و العلاج- قدیما و حدیثا- مقالات ضافیۀ بشأن أهمّیۀ العسل و فوائده الکثیرة و أنّه النافع غیر الضارّ علی
الإطلاق، نقتطف منها ما یلی:
مکوّنات العسل
یحوي العسل أکثر من سبعین مادّة مختلفۀ، فهو:
-1 أهمّ منبع للموادّ السکّریۀ الطبیعیۀ، حیث اکتشفت فیه الی الآن حوالی 15 نوعا من السکاکر، أهمّها: سکّر الفواکه (فرکتوز) بنسبۀ
. %40 ، و سکّر العنب (غلوکوز) بنسبۀ 30 %، أمّا سکّر القصب فبنسبۀ 4%. و أنّ کیلوغراما واحدا من ( 1) النحل: 68 و 69
للدکتور نزار الاقر. « العسل فیه شفاء للناس » 2) مع الطبّ فی القرآن الکریم: ص 182 نقلا عن کتاب )
ص: 176
العسل یعطی طاقۀ تقدّر ب ( 3250 ) حریرة.
-2 یقف فی الصفّ الأول بین الأغذیۀ الکاملۀ، من حیث احتوائه علی بعض الخمائر (الأنزیمات) التی تساعد فی عملیات الاستقلاب و
الهضم. و أهمّها:
خمیرة الشعیر، التی تحوّل النشاء الی سکّر، و القلابین التی تقلب السکّر العادي الی سکّر عنب و سکّر فواکه، و الکاتازالا، و
البیورکسیداز، و اللیباز.
-3 یحوي مجموعۀ من الفیتامینات، أهمّها: فیتامین ب، و ب 2، و ب 3 (أو حمض البانتوثینی)، و ب 5 (أو حمض النیاسین)، و ب 6
(أو البیرودکسین)، و فیتامین ث، و آثار من البیوتین، و فیتامین ك، و فیتامین ي، و فیتامین آ.
و هذه الفیتامینات توجد بمقادیر غیر مرتفعۀ، و لکنّها مفیدة، لأنّ العسل وسط ممتاز لحفظها. أمّا نسبۀ وجودها فمرتبط بنسبۀ غبار
الطلع الذي تجمعه النحلۀ، کراتب غذائی لها.
-4 یحوي العسل أنواعا من البروتینات و الحموض الأمینیۀ، و الحموض العضویۀ، کحمض النحل، و مشتقّات الکلوروفیل، و علی
منشطات حیویۀ، و علی روائح عطریۀ و غیرها.
-5 الأملاح المعدنیۀ، و أهمّها: أملاح الکلس، و الصودیوم، و البوتاسیوم، و المنغنیز، و الحدید، و الکلور، و الفوسفور، و الکبریت، و
الیود.
و تشکّل هذه الأملاح اثنین بالألف من وزن العسل.
-6 یؤکّ د الکثیر من الباحثین علی وجود موادّ مضادّة لنموّ الجراثیم فی العسل. کما یعتقد بوجود هرمون نباتی و نوع من الهرمونات
الجنسیۀ (من مشتقّات اللاستروجین).
اذا فالعسل مادّة شدیدة التعقید، تباین أنواعه قلیلا بتراکیبها، باختلاف الزهور التی جنیت منها.
و لعلّ السرّ فی احتوائه علی هذه المواد المختلفۀ- التی لم تجمع فی أيّ
ص: 177
صفحۀ 99 من 191
مادّة غذائیۀ اخري علی الإطلاق- هو جنی النحل رحیق کلّ الأزهار و الثمرات، استجابۀ لنداء خالقها یوم أوحی لها: ثُمَّ کُلِی مِنْ کُلِّ
الثَّمَراتِ فَاسْلُکِی سُبُلَ رَبِّکِ ذُلُلًا یَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ.
میزات العسل:
-1 مقاومته دون تسرّب الفساد إلیه الی سنین عدیدة، بل أحقاب متطاولۀ، بشرط ابتعاده عن فعل الرطوبۀ به.
-2 مضادّته للعفونۀ. و قد أکّ د أکثر الباحثین أنّ الجراثیم الممرضۀ للإنسان لا یمکن لها أن تعیش فی العسل، و أنّ العسل فعلا مبید
لها.
و سبب ذلک احتواؤه علی حمض النحل، و هو من الموادّ المضادّة للعفونۀ.
و لارتفاع ترکیز السکاکیر التی تصل الی 80 % من ترکیب العسل، رغم أنّ الأوساط ذات السکّريّ الخفیف تزید نشاط الجراثیم. و
هکذا التمر الذي یحوي نسبۀ عالیۀ من السکاکیر لا تنمو فیه الجراثیم.
-3 وقایته لنخر الأسنان، علی عکس سائر السکاکر الصناعیۀ التی هی قابلۀ للتخمّر بوجود العصیّات اللبنیۀ.
أمّا العسل ففیه قدرة واضحۀ فی الحثّ علی نموّ العظام و بزوغ الأسنان و فی التکلّس العظمی و السنّی. و بالتالی یزید نموّ الطفل و
یبعده عن خطر الکساح.
-4 یزید خضاب الدم و عدد الکریات الحمر.
و تشیر الإحصائیات إلی ندرة إصابۀ النحّالین بداء السرطان بالنسبۀ إلی أصحاب المهن الاخري.
-5 یسرع التئام الجروح و ینظّفها، لأنّه یزید محتوي الجروح من مادّة الفلوتاثیون التی تسرع عملیۀ التعمیر و الالتئام النسیجی.
1 فازلین. / 4 عسل+ 5 / -6 إنّه علاج جیّد لتقرّحات الجلد المزمنۀ. و خاصّۀ اذا طبّق المزیج المؤلّف من 5
ص: 178
-7 علاج جیّد للتقیّحات الجلدیۀ.
-8 یؤدّي لشفاء سریع للجروح الواهنۀ.
-9 ضماد معقّم لعملیات تحتمل التلوّث بالجراثیم.
قال الدکتور بولمان- الجرّاح النسائی-: و عندي کلّ المعطیات الایجابیۀ کی افکّر بهذه المادّة البسیطۀ التی تجیب علی کلّ الأسئلۀ
حول مشاکل الجروح و القروح المتقیّحۀ ... فهی مادّة غیر مخرّشۀ، و غیر سامّۀ، و عقیمۀ بذاتها، مضادّة للجراثیم، مغذّیۀ للجلد،
.«1» رخیصۀ، سهلۀ التحصیر، سهلۀ الاستعمال ... و فوق کلّ ذلک مادّة فعّالۀ
فسبحانه عزّ من قائل: فِیهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ!! 10 - یساعد علی الهضم بفعّالیۀ الأنزیمات الهاضمۀ التی یحویها، و یخفض الحموضۀ المعدیۀ
الزائدة، و فعّال فی معالجۀ استطلاق البطن (الإسهال)، و یمنع حدوث الإمساك أیضا، کما یفید فی معظم أمراض الکبد و الصفراء، و
فی السلّ، و السعال، و التهاب القصبات، و معالجۀ الربو و ذات الرئۀ، و التهاب حواف الأجفان، و القرنیۀ، و حروق العین، و النزلات
الشعبیۀ فی الأنف، و التهاب اللوزات و البلعوم المزمن.
و فوق ذلک فإنّ العسل یزید إرواء العضلۀ القلبیۀ و یمدّها بالطاقۀ بشکل ممتاز، و غیر ذلک کثیر، یطول بشرحها.
فسبحانه من عظیم، حیث و کلّ حشرة صغیرة لإعداد هکذا مرکّب عجیب کثیر الخاصّیۀ کبیر الفائدة خطیر الشأن.
و تمضی الأبحاث بغزارة علی العسل، و الکلّ یشعر أنّه ما زال فی هذا العجین الغریب، الکثیر من الأسرار وَ ما أُوتِیتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِیلًا
. 1) مع الطبّ فی القرآن: ص 191 ) .«2»
صفحۀ 100 من 191
. 2) الإسراء: 85 )
ص: 179
دقائق هی روائع فی التعبیر